الحب لا يكفي
١٣&١٤
الثالث عشر
لم تسمع ما أخبر به الطبيب بعد هذه الجملة فهى لا تصدق أن عثمان قد اصيب بضرر ، تلاحقت أنفاسها مع تضارب أفكارها التى تدفعها للهرب من هذا المكان والعودة للمنزل وهناك ستنتظر قليلا ثم يعود عثمان بنفس هيئته الجادة القوية التى تظهر قوة لا يبالغ هو فى إظهارها.
رأت عمها الذى لم يعد قادراً على حمل بدنه ليسرع أيمن محيطا خصره بدعم
_ وحد الله يا عم صبرى خير إن شاء الله . ادعى له بس يفوق وكل حاجة هتبقى كويسة عثمان راجل مايتخافش عليه.
عادت عينا صبرى تتعلق بعينيها وهى تقف مكانها بنفس الوضع وعقلها يعود بها لعهد قريب حين نعتته بإنعدام الرجولة، زادت ثورة أنفاسها وهى ترى أمام عينيها عنايته بها ورعايته لها بعد أن طعنته فى كرامته مباشرة لترى كم كانت ظالمة!
تسارعت ضربات قلبها وهى يتذكر رفضها له رغم كل ما قدمه من حنان ودفء لتتحول أسعد لحظاته إلى اشقاها.
هى كانت بارعة في إفساد حياته منذ الأزل لكنها نافست نفسها مؤخراً وأصبحت أبرع فى زرع أشواك التعاسة بصدره وبين كفيه كلما اقترب منها فها هو ينذر برحيل نهائى لا تقوى على مجرد التفكير فيه.
…………..
ظلت مكانها وقد وصلت أمها وخالتها والفتاتين، الجميع يبكى عثمان عداها، تنظر إلى وجوههم التى تحمل الحزن وكلماتهم التى ترجو وتستغيث بالله لكن أين دموعها؟
لا تجد دموعا لتبكيه رغم كل ما تشعر به من ضياع منذ وصلت لهذا المكان وبينما هى شاردة بين ما تراه وبين ما تشعر به ظهر الطبيب مرة أخرى ليتلهف الجميع حوله
_ هو دخل العناية المركزة وفى غيبوبة، زى ما قولت لكم الضرر أغلبه فى الرأس، كسر كتفه بسيط جدا بالنسبة ليه وكسر القدم مش خطير المشكلة دلوقتى الغيبوبة ووظائف المخ و مش هنقدر نقيم الضرر اللى حصل غير لما يفوق، الإصابة في مكان حساس وفيه تحكم في أغلب وظائف جسمه الحركية والادراكية كمان، عن اذنكم
غادر مرة أخرى تاركا القلوب خلفه تنعى وتبكى فكلما ظهر ألقاهم بخبر أسوأ مما سبق، دارت عينيها تبحث عن الدعم الذى تحتاج لكن الجميع غارق في أحزانه الخاصة بالفعل، توقفت عينيها على أمها لترى صورة باهتة من ذكريات اقصتها بعناية حين كانت أمها تصر على الفصل بينها وبين عثمان فى الصغر وبعد أن اعتادت وجوده ورعايته وحياتها التى لا تسير بدونه، تذكرت أمها ذات يوم أنها فتاة وأن عثمان على مشارف المراهقة لتصر على إبعادها عنه وبعد أعوام من وضعها عثمان في خانة الاخ أتت أمها أيضا مقررة أن عثمان زوجها المستقبلى وأن عليها التعايش مع هذه الحقيقة.
نزعت عينيها بعيدا عن أمها وهى بالفعل تعجز عن إلقاء كامل اللوم عليها ، فهى أرادت إبعاد عثمان، هى أرادت الهروب منه.
……………
دخلت وفاء لمنزلها لتجد أمها التى أصبحت كل أسرتها بعد زواج شقيقتيها وقد غفت أثناء انتظار عودتها كما يبدو، اقتربت وتلمست ذراعها بهدوء
_ ماما، اصحى يا حبيبتي انت نايمة هنا ليه؟
فتحت عينيها لتنظر لها بتكاسل ورغبة في متابعة النوم
_ اتأخرت اوى يا وفاء، حصل ايه يا بنتى؟
جلست وفاء بالقرب منها وملامح وجهها مستبشرة بما حدث معها اليوم
_ الحمدلله يا ماما الحقيقة اتكشفت وحق العامل هيرجع وكمان كل العمال هيشتغلوا بمعدات مستوى الأمان فيها عالية
_ طيب يا بنتى الحمدلله مش قولت لك العصبية مالهاش لازمة ده اخد الحق حرفة ، المهم انت رجعتى شغلك؟
_ ايوه يا ماما رجعت وهشرف على رمى القواعد لباقى المشروع الأسبوع الجاى بس هرجع فى نفس اليوم.
_ تعب عليكى يا وفاء
ابتسمت وفاء للمحبة التى تحيطها بها أمها دائما لتعزز داخلها المحبة رغم أن طبيعتها الانفعالية تحول دون ذلك
_ تهون يا ماما إن شاء الله، بقولك ايه ما تيجى معايا هيبقى معايا عربية من الشركة وفى هناك شالية حلو ممكن ترتاحى فيه وتشمى هوا نضيف
استنكرت نظراتها كل ما تعرضه ابنتها رغم ابتسامة حالمة كللت وجهها، لم تحظ بحياة حافلة بالسعادة فى كل الأحوال وتعلم ابنتها أنها حرمت من الكثير من متع الحياة للإبقاء لهن على حياة كريمة تحتوى تطلبات ثلاثة من الفتيات دون أب يكن داعما لهن لذا تابعت وفاء محاولتها
_ هتقعدى لوحدك تعملى إيه أنا هسافر بعد الفجر وارجع بالليل تعالى معايا ونرجع سوا علشان خاطرى يا ماما
يهفو قلبها لما تعرضه ابنتها لكنها لم تعتد الحصول على متع الحياة بهذا اليسر وتخشى أن تبتعد عن ابنتها أيضاً، لا يمكن أن يخطئ قلبها ما يحدث مع وفاء، هى تعلم أن ثمة ما يدور وتخفيه عنها وعل صحبتها لها تكشف سبب تذبذب ابنتها مؤخراً .
_ من هنا ليومها يحلها ربنا المهم قومى غيرى وحضرى لنا الأكل هتلاقيه لسه سخن
_ بس كده؟ عيونى يا ست الكل
اتجهت نحو غرفتها بحماس لتنظر أمها فى أثرها فكم تخشى عليها من تحطم القلوب على صخور آمال الواقع التى تدمر أحلام الكثيرين، الأمر يخص قلبها لا تحتاج أن تخبرها بذلك فرغم أن وفاء ربما تكون أكثر بناتها انفعالية وتقلبا لكنها تملك قلبا غضا لا يمكن أن يخفى ما يحدث معه أكثر من ذلك.
……………..
لا تعلم كم مر من الوقت وهى غارقة بين ذكريات لا تدرى أين كانت تختفى وبين ما استمرت عليه حياتها مع عثمان مؤخرا لكنها أفاقت من شرودها على بكاء خالتها الذى يمزق القلوب
_ لا يا صبرى علشان خاطرى خلينى جمب ابنى، مش عاوزة اروح وحياة عثمان عندك خلينى هنا
_ يا هالة افهمينى قعدتنا هنا مالهاش لازمة وهنيجى الصبح علطول إن شاء الله يمكن يكون فاق لما نرجع
_ لا يا صبرى خلينى هنا يمكن يفوق ويحتاج حاجة، أو يسأل عننا ويلاقى نفسه لوحده
_ ابنك راجل يا هالة وانا معاه وبعدين هتفضلى هنا وسارة تروح فين؟
ظهر أخيراً صوت أمها التى تحاول أن تحمل عن اختها الصغيرة بعضا مما تعانيه وتشعر هى به
_ خلاص يا صبرى انا هاخد البنات واروح وانتم خليكو هنا
نظر صبرى نحو هنية لكنها تحركت فوراً بلهجة آمرة
_ يلا يا عالية وانت يا سارة، اللى هتسمع الكلام هتيجى معايا بكرة بدرى.
نهضت الفتاتين تستندان إلى بعضهما بمظهر تبكى له القلوب قبل العيون لتحيطهما هنية بذراعيها وتتجه للخارج بصمت .
دعم عمها خالتها حتى اجلسها ثم اتجه ليجلس قربها هامسا بنفس منهكة
_ سهى ماتعمليش يا بنتى زى خالتك، انا لو قعدتكم هنا تفيد في حاجة ماكنتش قولت لكم روحوا أبدا
ارتفعت عينيها لعينيه التى عادت لطبيعتها لتتهرب منها وهو يتابع
_ قومى يا حبيبتي هخلى ايمن يروحك وتعالى الصبح ولو حصل أي حاجة هكلمك علطول
هى لم تعترض لا لأنها تريد المغادرة بل لأنها لا تقوى على المجادلة لذا تحركت بصمت ليشير فيسرع أيمن نحوه
_ روح سهى يا أيمن وروح انت كمان مراتك تعبانة ولو في حاجة هطلبك
_ حاضر يا عم صبرى ومن النجمة هفتح الورشة كأن عثمان فيها ماتقلقش
ربت فوق كتفه شاكرا بينما نظرت هى له مستنكرة تفكيره فى العمل في هذا الوقت العصيب، أشار لها لتتقدمه نحو الخارج بصمت ويعود صبرى يجر قدميه إلى حيث تجلس زوجته ليجلس قربها صامتا .
…………………..
دخلت سهى لشقتها التى يغلفها الصمت والبرودة لتتجه نحو غرفتها وقبل أن تدخلها عدلت وجهتها لتتجه نحو غرفته، تلك الغرفة التى فر إليها هربا من تعذيبها له.
تعذيبها له؟؟
بلى فعلت، لقد حاكمته هو على كل أخطاء حياتها هي ، لم يكن عليها الزواج به وقلبها منشغل بأخر ، ما كان عليها أن تقبله وهى تراه أقل منها شئنا ، لم يكن عليها أن تنصاع لمجريات حياتها لتصل به هو لهذه النتيجة.
لماذا لم تفكر في مصارحته قبل الزواج؟
كان سيتركها مؤكداً إن فعلت؛ ألهذا لم تصارحه؟
هل كانت تخشى تخلى عثمان عنها؟
زفرت بعض أفكارها مع أنفاسها بضجر وهى تتجه إلى الخزانة لتترك متعلقاته التى قدمها لها عمها بالمشفى . فتحت الخزانة لترى تنظيمه الشديد لكل شيء، مر كفها فوق أغراضه متلمسا برفق لتتوقف عينيها أمام نهاية الرف حيث دس شئ ما بتسرع .
دق قلبها بعنف وهى تدس كفها تبحث عن أسرار عثمان التى يخفيها وعقلها يكرر عدة صور سريعة لحياتها معه.
وصل كفها لذلك الشئ الذى أفسد نظام الرف لتحيط أناملها تلك الحبيبات وتنشق ابتسامتها وقد تعرفت على ملمسها فوراً.
سحبت كفها محيطا الحبيبات البندقية الرائعة التى يمتزج لونها بين الشيكولاتة والبندق لترفعها أمام عينيها بعدم تصديق وفى لحظة انهمرت دموعها وكأنها كانت تنتظر رؤية ما يربطها به .
ظلت مكانها أمام ملابسه ومتعلقاته وبين كفيها ترقد حبيبات المسبحة العقيقية التى لا يمكنها أن تنساها ابدا.
شهقت بألم وهى ترى يوم من الماضى الذى أصبح بعيدا واقصته هى لتزيده بعدا، كانت قد جاوزت الطفولة وبدأت براعم جمالها تتفتح حين سافر أبيها لحج بيت الله الحرام ورافقه أخيه واختها بينما رفضت هنية مرافقته خوفا على الصغار كما أعلنت وقتها ورفضت بقاء خالتها التى عرضت ذلك لكنها اكتشفت حينها أن أمها تزيد من الحدود بينها وبين عثمان وكانت قد اعتادت ذلك بالفعل فلم تلق له بالا وتركت أمها تحدد حدود إقامة عثمان معهما كما تشاء و لأن أمها تحب عثمان كحبها لعينيها وحواسها أو يزيد فلم تؤثر صرامتها الشخصية فى الفصل بينهما على قربه منها بل تقبله بود لترى هى أنها رغبته أيضاً.
مرت الأيام وعاد الغائبون وحين عاد أبيها كان يحمل تلك المسبحة الرائعة التي خطفت عينيها فورا وكعقل طفلة لم ينضج تفكيرها اختلست أول فرصة سنحت لها لسرقة المسبحة وكانت أولى كذبات حياتها .
زاد انهمار دموعها وهى تعود للماضى وترى أبيها يتقدم من مجلسهم ليسأل أمها
_ هنية فين السبحة العقيق اللى جبتها من الحجاز؟
_ مااعرفش يا خيرى شوفها هنا ولا هناك هتروح فين يعنى؟
اتجهت نحوها نظرات أبيها لشغفها الواضح بمسبحته
_ سهى فين السبحة؟
_ مش عارفة يا بابا
_ يعنى مااخدتهاش؟
_ لا اشمعنا انا ما تسأل عثمان ما هو كمان بياخدها كتير
نهرتها هنية فورا بلا تردد
_ عثمان عمره ما اخدها من غير ما يقول ولا بيمد أيده على حاجة من غير إذن
_ يعنى انا اللى حرامية يا ماما؟
_ يا بنتى محدش قال إن فى حرامى من أصله امك قصدها انك بتلعبى بالسبحة وماتعرفيش قيمتها هى غالية عندى علشان جبتها من الحجاز
زادت حدة سهى كعادة طفولية سكت عنها أبويها كثيرا لتصبح عيبا فى شخصيتها
_ وانا مااعرفش هى فين
ونهضت بحدة تتجه نحو غرفتها وما إن دخلت حتى أخرجت المسبحة من جيبها ونظرت لها بحيرة وهى لا تدرى سبب الغضب الذى تملكها لتنكر أنها بحوزتها، ما كان أبيها ليغضب منها أو لينهرها ولو بكلمة لكنها أوقعت نفسها في ورطة فهى لم تنكر حصولها عليها فحسب بل نسبت ذلك لعثمان وقريباً سيسأله أبيها.
استغلت غياب أبيها بالورشة وانشغال أمها وخالتها لتتسلل إلى غرفة عثمان وتترك المسبحة بدرج مكتبه رغم حزنها لفراقها لكنها لن تبدو أمام والديها كاذبة وسارقة بعد أن احتدت ونفت ذلك.
مساءا وبعد عودة أبيها وعمها من الورشة كانوا يتسامرون كالعادة وامها وخالتها تشاهدا حلقة يومية لا تملان منها وهى مضطرة للجلوس صامتة تراقب الجميع وحده عثمان المحظوظ من ينجو من هذا الروتين ويمكنه اللعب مع أقرانه ، منعتها أمها من مشاركة فتيات الحى فى اللعب بزعم أنه لا يليق بالفتيات اللعب والتجول فى الطرقات مادمن جاوزن الطفولة عليهن البقاء في المنزل عزيزات محفوظات من الأعين والانفس.
دخل عثمان يركض نحو غرفته ويبدو أنه سيبدل ملابسه ويغادر مرة أخرى ليستوقفه أبيها
_ عثمان ماشوفتش سبحتى العقيق يا حبيبي؟
_ لا يا عمى ماشوفتهاش
وتابع ركضه وعينا سهى تتبعانه بغيظ لماذا لم يسأله أبيها المزيد؟ ولماذا تصمت أمها؟
اختفى عثمان داخل غرفته لتتحدث هالة بحزن
_ مش معقول! السبحة انا شوفتها في مكتب عثمان النهاردة وفكرته مستأذن عمه
اتجهت لها الأعين مستنكرة ونطق لسان أمها فورا
_ قصدك ايه يا هالة! عثمان عمره مايعمل كده!
_ يمكن اخدها ونسى
نظرت لأبيها مستنكرة محاولته الدفاع عن عثمان بهذه الحجة الواهية بينما انتفض عمها صارخا باسم عثمان الذى أتى مهرولا
_ نعم يا بابا
_ ادخل هات سبحة عمك
_ مش معايا يا بابا
تحرك صبرى فور إنكاره ولم يدرك أي منهم سرعة خطواته حتى هوى كفه فوق وجه عثمان لتنشق الشهقات من الصدور
_ انت كمان بتكدب! امك شافتها فى مكتبك أدى اللى خدناه من الصنايع بتاعتك بقيت حرامى
حاول عثمان التحدث مرة أخرى وكان أبيها قد أعاد عمها للخلف بالفعل لكنه تابع
_ ادخلى يا هالة هاتى السبحة من أوضته
كانت خالتها تحيطه بنظرات حزينة واتجهت للداخل بالفعل لتعود بعد لحظات مرت طويلة على الجميع وبين كفيها سبحة أبيها التى وضعتها هى لتتجه عينا عثمان نحوها مباشرة وكأنه اكتشف فعلتها لكنها نظرت بعيدا عنه رافضة الإعتراف ، زاغت نظرات عثمان بينما تابع صبرى صراخه
_ إيه رأيك يا استاذ؟ كانت في اوضتك ولا لا ؟
_ يا بابا والله
_ اياك تحلف
أنهى أبيها تأزم الوضع حينها واقترب من عثمان وهو يزج أخيه للخلف
_ خلاص يا صبرى وما تمدش إيدك عليه تانى طول ما انا عايش انت فاهم!
ربت فوق كتفه بينما عينيه لازالت تنظر نحوها بغضب ، سحب أبيها مسبحته الغالية من خالتها ليدسها بكف عثمان
_ دى هدية منى ليك يا عثمان، وخد بالك السبحة غالية عليا بس انت أغلى
رفع عثمان عينيه لعمه وكاد أن يقسم له أنه لم يفعلها لكن أبيها سحبه لصدره ليربت فوق رأسه فيزيد من غضبها هى تجاه عثمان الذى يحظى بكل الرعاية من الجميع.
عادت من ذكرياتها وهى تكفف دموعها، هى لم تر هذه المسبحة مذاك اليوم لكنه احتفظ بها كل هذه السنوات .
أغلقت الخزانة واحتفظت بها قرب صدرها دون أن تتوقف عن البكاء فيبدو أن عليها مواجهة كل أخطاء الماضى ويمكنها أن تفعل المهم أن يعود عثمان للحياة وأن تراه مجدداً فكم هى نادمة على التهرب منه فالألم الذى خلفه يصعب عليها وصفه أو التعامل معه.
الرابع عشر
حصلت على عدة غفوات قصيرة متعبة فوق المقعد بغرفته وكفها يحمل المسبحة وعينيها كلما فتحتها تتفقد الغرفة بحزن ، رأت شعاع الشمس يتسلل من الشباك وكأنه يخجل أن يعلنها أن وقت الراحة قد انتهى مع آخر انتفاضة فزعة منها، مسحت وجهها بكفيها معا ثم نهضت بتكاسل لتدس المسبحة بحقيبتها وتتجه نحو الخزانة لتفتحها وتحمل منها ما تستطيع حمله متجهة إلى غرفتها .
مرت ساعة واحدة تمكنت فيها من نقل أغراضه كلها أو إعادتها إلى المكان الذي ينبغى وجودها فيه لتبدأ تفكر فيما ستفعله.
جلست مرة أخرى لتعترف أمام نفسها أنها المخطئة وأن زواجها من عثمان بدت مجبرة عليه لكنها لم تدافع عن رفضها له ولم تتمسك بالشخص الذي اختارته دونه، لقد سمحت بزواجها من عثمان ثم حملته هو عبء تحطم أحلامها وضياع حبها المزعوم.
محسن !!!!
عليها أن تقابله فورا .
بعد ساعتين كانت تغادر المنزل وهى عازمة على التوجه لمقابلة محسن والذى كان الشخص الوحيد بحياتها الذى تمكن من التحكم فيها، كانت تسعد بتملكه وتحكمه فيها، كانت تشعر بأهميتها فى وجوده ، معاملته لها بقمة الرقى والرقة لكنه كان يفرض رأيه الذى تسعد بأتباعه دائماً فقدم لها الدلال الذى اعتادت عليه مع اهتمام بكل تفاصيل حياتها وغلف علاقته بها بتحكمه الذى بدى دائماً لصالحها فلم تقارن بينه وبين تسلط وتحكم أمها التى لم تكن تفكر فى صالحها بل فيما تراه هى.
طوال الطريق تقارن بين محسن وعثمان ولم تكن المقارنة عادلة أو منصفة أبدا فهل يمكن المقارنة بين أهمية الماء والهواء ؟
هل يمكن المقارنة بين روعة الأرض والسماء؟
بالطبع لا لذا فشلت كل محاولاتها لإرجاح كفة أحدهما دون الآخر.
وصلت للشركة التى كانت يوماً ما بداية أحلامها لترى كم كانت أحلامها خادعة.
وصلت لمكتب محسن بسهولة وطلبت مقابلته ولم تنتظر أكثر من دقائق قبل أن تسمح لها المساعدة بالدخول.
تقدمت بخطوات مهزوزة ليرى محسن سوء حالتها فيقف مستقبلا لها باحترام اعتادته منه
_ سهى!! مالك؟ اتفضلى الأول اقعدى
جلست سهى وهو بمكانه خلف مكتبه يتابع فرض سيطرته كما إعتاد
_ شكلك تعبان اوى حصل ايه؟
_ مانمتش كويس عثمان عمل حادثة امبارح وفى العناية المركزة
تبدلت ملامحه البشوشة فورا وزال كل الترحيب عن قسماته ليتبدل لشخص آخر لا تعرفه جيداً
_ آه، طيب فى حاجة أحب اوضحها لك الأول، انا لما جيت اعزى فى وفاة والدك ماكنتش أقصد أعمل مشكلة بينكم ولا كنت عاوز أوصل لك أي رسالة انت بالنسبة ليا انتهيتى يوم ما اتجوزتيه
ظهرت الصدمة فوق ملامح سهى وهى ترى سوء ظنه النابع من رؤية مقصورة لكونها امرأة بل ورؤية أشد سوءاً لشخصها
_ انت بتقول إيه يا محسن؟
_ بقول الحقيقة يا سهى انا مستحيل اخد حاجة حد غيرى استخدمها
انتفضت واقفة كمن لدغها ثعبان وربما كانت كلماته أشد فتكا من سم الثعابين في هذه اللحظة
_ للدرجة دى فاكرنى خاينة ومعدومة الضمير؟ انت فاكر انى جاية أرجع اللى كان واللى واضح أن خسارته مكسب؟
نظر لها ببرود دون أن يتحرك عن مقعده
_ امال جاية ليه دلوقتي؟ لو هتقولى الشغل فكنتى جيتى من زمان
_ لا هو فعلا الشغل، انا كنت هعمل دراسات عليا وقدمت فعلا امبارح بس بعد اللى حصل فكرت اشتغل بدل ما الوقت يقتلني وانا بلوم نفسى لأنى السبب في تشتيت تنبيهه والسبب في اللى حصل
تهكمت ملامح محسن بشكل غريزى
_ طبعا انت تشتتى تنبيه أي راجل
اعتدلت بوقفتها وهى تبتعد عن مكتبه وقد أرجح هو كفة عثمان بعد أن كشف لها رؤيته للمرأة عموما ولها بشكل خاص لترى كم كانت سطحية وتافهة حين ظنت أنها تحبه وحين رأت تحكمه اهتماماً وتسلطه محبة .
_ انا كنت جاية اطلب منك اشتغل عندك فترة مؤقتة لحد ما يرجع لى عثمان لكن كنت غلطانة وآسفة انى نزلت من نفسى للدرجة دى عن اذنك
اتجهت للخارج ليشعر بوخزة من ضميره ويستوقفها
_ استنى يا سهى انا مااقصدش ازعلك أو اجرحك ، لما ماجيتيش للشغل من أول ما قولت لك فكرتك صرفتى نظر ووجودك دلوقتى وبداية كلامك خلانى
رفعت كفها تستوقف الكلمات فوق شفتيه
_ خلاص يا محسن انت مش غلطان انا اللى غلطت لما فكرت انى اقدر ألجأ لك ، للاسف مفيش غير راجل واحد بس اللى عمره ما ردنى مهما عملت فيه وللأسف بردو هو دلوقتى فى غيبوبة .
رأى دموعها التى فرت من مآقيها بمجرد ذكرها عثمان ليعلم أنه لم يكن لها يوماً حبيبا، ربما وجدت معه ما افتقدته مع عثمان فلجأت إلى وهمه لكنها لم تحبه يوما فهى وإن كانت لا تعترف تحب عثمان طيلة الوقت.
راقب مغادرتها دون أن يحاول إيقافها مرة أخرى فلا مكان لها بقربه، هى أخطأت بالفعل بقدومها إليه وكان سوء ظنه وفهمه سببا لتنكشف أخطاء كليهما معا.
………………
اتجهت وفاء إلى مكتب محسن لتفقد حالته الصحية اليوم لكنها اصطدمت بسهى التى تهرول هربا لتتعجب لتلك الهيئة التى بدت عليها وتمسك ذراعيها بلهفة مختلطة بالفزع
_ مالك يا سهى؟ انت كنت عند محسن؟
نظرت لها سهى وكأنها وجدت طوق النجاة لترتمى بين ذراعيها باكية
_ وفاء انا .. عثمان .. انا
احاطتها وفاء وفزعها يتزايد لما تراه من تخبطها
_ أهدى يا سهى ، تعالى معايا
سحبتها للخارج دون أن تعلم إلى أين تتجه بها لكنها وجدت نفسها بصحبة وفاء فى مقهى هادئ والأخيرة تقدم لها كوبا من الماء
_ اشربى يا سهى وأهدى وقولى لى حصل ايه
تناولت الكوب بكف مرتجف لترشف منه بضعة قطرات فتكتشف أنها بحاجة للمزيد فتتابع شربه لآخر قطرة .ربتت وفاء فوق كفها
_ حاسة انك احسن؟
اومأت بصمت لتتابع وفاء
_ احكى لى حصل ايه وصلك للحالة دى
بدأت سهى تقص عليها كل ما حدث وهى بحاجة شديدة للنصح والإرشاد، أخبرتها عن الحادث الذي تعرض له عثمان وعن مشاجرة بينهما سبقته مباشرة ثم أخبرتها عن شعورها بالذنب تجاهه وأخيرا زيارتها لمحسن وظنه فيها .
استمعت لها وفاء وقد ألجمت غضبها لكل هذه الفوضى التى تعيشها سهى، حقا لم تكونا مقربتين بشكل كبير لكنها لا تريد هذا التخبط لأي كان وستظل سهى رفيقة لها رغم كل شيء.
منحتها الوقت الكافى لتفرغ شحنة تزلزلها الداخلى ثم أتقنت الوجه الهادئ وقالت
_ بصرف النظر عن كونك غلطتى فى انك لجأتى لمحسن ولا لا تفتكرى شغلك فى التوقيت ده صح؟ تفتكرى صح تخرجى من بيتك النهاردة بدل ما تروحى تطمنى على جوزك تيجى لمحسن؟ أنا مش بديله حق في سوء ظنه ولا أفكاره بس انا عوزاكى تتخيلى رؤية عثمان للصورة
زاد تقطب جبين سهى وهى تنظر نحو وفاء التى تجتذب لها أطراف الصورة لتنكشف أمام عينيها بوضوح زاد من تأنيبها لنفسها فسارعت تحاول الدفاع عن نفسها
_ وفاء انا ماقصدتش ده، لا انا كنت فاكرة أنى بدور ..
قاطعتها وفاء بربتة فوق كفها
_ انت من الصدمة تفكيرك وقف، من الخضة ارتبكتى، مفيش مشكلة يا سهى كلنا بنغلط بس المهم واللى بيفرق مين بيصمم على غلطه ومين بيراجع نفسه
_ تفتكرى عثمان لما يفوق هيكرهنى
_ افتكر عثمان لو فاق وانت مش جمبه هيكره نفسه ، خليكى جمب جوزك يا سهى هو محتاج لك وإذا حبيتى لما يقوم بالسلامة تأجلى الدراسات العليا وتشتغلى انا اقدر اجيب لك شغل صحيح انا مش فى المجال من زمان بس شركة محسن بتوسع دايرة المعارف بسهولة، وبالمناسبة احب أسألك انت لسه شايفة انك بتحبى محسن؟
زاد الألم فوق ملامح سهى وهى تهز رأسها نفيا
_ انا بقيت شايفة أن الحب مش كفاية، إذا الشخص مش مناسب يبقى الحب مش فى محله ولا هيقدر ينجح العلاقة
تنهدت وفاء وشابهت ملامحها سهى فى الألم وهى ترى أن رفيقتها بدأت تتخذ الإتجاه الصحيح
_ معاكى حق، الحب فعلا مش كفاية تعالى اطلب لك تاكسى وانا هبقى اتصل بيكى
_ انا غيرت الرقم عثمان جاب لى رقم جديد وعدة جديدة خدى سجلى لى رقمك .
لم تمانع وفاء فتح جسر جديد للتواصل مع سهى التى تثق أنها بحاجة شديدة لها وهى أيضا تحتاج إليها وإلى دعمها .
…………….
دخلت المساعدة لمكتب محسن الذى استدعاها فوراً ليصيح بحدة
_ انا مش طلبت المهندسة وفاء؟
_ مش موجودة يافندم خرجت مع المدام اللى كانت عند حضرتك
توجس محسن فورا وانقبض صدره بضيق
_ قصدك سهى؟ انت متأكدة؟
_ ايوه يا فندم انا دورت عليها وسألت الأمن
_ طيب روحى انت
تحركت فورا مغادرة بينما بدأت أفكاره عن سبب تلك الصحبة التى لا يحبذها ، حقا وفاء نوع مختلف تماماً من النساء عن سهى لكن عليه أن يتحكم في مجرى الأمور بشكل أقوى، هو يتذكر جيدا مدى رعونة سهى فى بداية علاقته بها لكنها سرعان ما تقبلت الخضوع ورضخت لترويضه لها لتكن له كما شاء وإن فشل مرة معها فلن يكون الفشل حليفة دائما وسيتمكن مؤكدا من دفع وفاء للقبول بسطوته عليها فهو يرى بين عينيها ما سيمكنه من النجاح هى ستفتح له الباب لقلبها وهو سيزرع طريقه بما يريد لها أن ترى.
……
لم يمر الكثير من الوقت وكانت وفاء تدخل لمكتبه بوجه بشوش ينفى هواجسه عن صحبتها لسهى وتأثيرها السئ عليها، استقبلها برسم ابتسامة مرحبة لتتساءل فورا
_ صحتك عاملة إيه النهاردة؟
_ وفاء بطلى تعيشى دور مامتى
نبرته التحذيرية زادت من اتساع ابتسامتها فهو يثبت لها كل يوم أنها احسنت تقيمه .
جلست أمامه بنفس الطريقة المعتادة ليلاحظ كم هى معتدة بنفسها ويشرد لحظة عنها لكنها حركت كفها أمام وجهه
_ انا جاية اقولك حاجة مهمة
_ اتفضلى
_ ماما هتيجى معايا يوم الجمعة انا قولت تغير جو وابقى مطمنة عليها بدل ما تفضل لوحدها
_ هو انت مالكيش اخوات يا وفاء؟
_ ليا أختين بس اتجوزا وانا عايشة مع ماما، سلام انا هروح اخلص شغلى
تمنى أن يستوقفها ليسأل عن أبيها لكنها تحركت فوراً نحو الخارج ليتغاضى عن ذلك ، يمكنه أن يؤجل سؤاله ليوم الجمعة وحينها سيتعرف إلى والدتها أيضاً، يبدو أن أموره تسير على ما يرام.
……………….
وصلت سهى للمشفى وكان عمها يجلس بنفس المكان ورأسه يستند للجدار خلفه ، اقتربت منه ليرى كل منهما كم الآخر فى حالة مزرية
_ خالتى فين؟
_ صعبت على الممرضة واخدتها ترتاح فى اوضتهم ماهى مش راضية تروح
جلست بجواره تنتظر أن يفصح عن تحسن الوضع لكن صمته لا يبشر بالخير وهى تعجز عن صياغة سؤال مباشر لذا راوغت
_ وانت يا عمى مش هترتاح ؟
_ ارتاح ازاى وابنى فى الحالة دى؟ عثمان مش بس ابنى عثمان عمرى كله ووقعته دى قطمت ضهرى
نهدة حارة فرت من صدره لتلزم الصمت ، مر بعض الوقت ووصل الطبيب لمعاينة الحالة لكنه خرج لهم بنفس الوجه الكئيب لترى العقول ما تحاول القلوب إنكارها رؤيته
_ مفيش تحسن يا دكتور؟
_ مؤشراته الحيوية مستقرة لكنه لسه في غيبوبة
_ اقدر اشوفه من فضلك؟
_ انت مراته؟
_ ايوه
تطلع الطبيب لوجهها وصمت لدقيقة كاملة ليزداد وجيب قلبها قبل أن يدس كفيه متنهدا
_ هبعت لك الممرضة تساعدك وكلميه عن أي حاجة تخليه يتمسك بالحياة
_ قصدك ايه يا دكتور؟
تساءل صبرى بفزع ليحصل على اهتمام الطبيب الذى تحدث بنفس هدوءه
_ قصدى أنه كان المفروض يفوق من الغيبوبة مادام مستقر حيويا لكن عقله رافض لسبب هو بس عارفه، كمان مهما كان الضرر من الحادث هيأثر على وظايف جسمه أو مخه لكن مش يدخله فى غيبوبة خصوصا أن بنيته كويسة وجسمه اتقبل الأدوية بسرعة واستعاد استقراره يعنى بردو الغيبوبة غير منطقية فى حالته .
تحرك مغادرا لتظل مكانها حتى ظهرت الممرضة التى أشارت لها
_ اتفضلى معايا
لم يبد عليها أنها استمعت ولم تظهر أي رد فعل لوجود الممرضة التى اقتربت تمسك ذراعها لتستعيد تركيزها وادراكها وتعيد بلطف
_ اتفضلى معايا هساعدك تتعقمى وادخلى له
سارت معها دون أن تنظر إلى الطريق الذى تسلكه فقط تنفذ ما تمليه عليها بصمت كأنها آلة بشرية ورغم مرور الدقائق إلا أنها شعرت أن الوقت أصيب بالبطء وخطوات الساعة متثاقلة بوهن يشبه ما تشعر هى به .
اخيرا وجدت نفسها في الغرفة حيث يرقد فوق فراش معدنى بارد والجو العام للغرفة يتميز ببرودة يمكنها النفاذ للروح بسهولة فتقشعر لها الأبدان.
تقدمت بأقدام تهتز نحو الفراش ، لم تر عثمان فى حياتها بمثل هذا السكون، رأته كثيرا ينام فى طفولتها لكنه أثناء نومه يثير فوضى حوله لا تتناسب مع نظامه الدقيق في يقظته ، فما باله الأن مغلف بهذا السكون؟؟
نظرت لملامح وجهه التى أخفى الرباط الطبى أغلبها، لم تر عينه اليمنى بينما رأت ارتخاء جفنه الأيسر مع تورم مؤلم لمجرد رؤيته.
تحرك كفها لتخرج المسبحة التى تخفيها فى جيب تنورتها لتضعها فوق صدره الذى تشعر به باردا لأول مرة
_ انت كنت محتفظ بالسبحة طول السنين دى؟ ليه يا عثمان؟
صمتت وكأنها تنتظر إجابته وحين لم تأتيها تابعت
_ انت كداب يا عثمان، ايوه كداب، طول عمرك تقول انى اختك الصغيرة، بس محدش بيتجوز أخته يا عثمان، انت كدبت على نفسك وانا كدبت على نفسى .
صمتت تحاول تنظيم أنفاسها التى يغالبها البكاء ويبدو أنه سيتغلب قريبا لكنها لا تريده أن يشعر بدموعها رغم أن الاختناق بصوتها يوشى به.
استعادت السيطرة بعد دقيقتين تقريبا لتتابع
_ عثمان أنا عارفة انك سامعنى، وعارفة انك زعلان منى بس انت مش عارف انى انا كمان زعلانة من نفسى ، عثمان فوق علشان انا محتاجة لك معايا.
ظلت أصوات الأجهزة الرتيبة هى كل ما يصل لمسامعها رغم تشوش الرؤية لتجمع الدموع بعينيها فأسرعت تكفف دموعها وهى تشير للخارج
_ عمى وخالتى برة مستنينك تفوق، لو مش عاوز تفوق علشانى فوق علشانهم
لم تجد أي استجابة لتسحب كفها بعيدا عن صدره
_ انا سرقت السبحة دى زمان من بابا وكانت سبب انى بعدت اوى عنك وامبارح سرقتها تانى منك بس المرة دى مش هتبعدنى ، عثمان لو مضايق منى أوى قوم ومشينى من جنبك لكن طول ما انت نايم أنا هفضل هنا غصب عنك، أنا طول عمرى كنت جمبك غصب عنك بس لا انت اخدت بالك ولا انا كنت شيفاك
رواية زواج لم يكن في الحسبان الفصل التاسع